العاب الشلة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

العاب الشلة

مجمع العاب فيديو
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 التائه

اذهب الى الأسفل 
+2
فــــ الشلة ـــارس
N.A.M
6 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
N.A.M
big BOSS
big BOSS
N.A.M


ذكر عدد الرسائل : 37
تاريخ التسجيل : 06/12/2007

التائه Empty
مُساهمةموضوع: التائه   التائه Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 12, 2007 8:35 am

- 1 -‏

حدثني يوسف بن يوسف الهلالي قال:‏

-أشعر أنني في قلعة آمنة. لا أبذل كثيراً من الجهد لأحصل على ما يعينني على البقاء متحركاً. أدور في أنحاء قلعتي بحرية لا مثيل لها. تضخمت فأصبحت أضيق بالمكان. لكنني أحبه. ولم ترغب نفسي عنه. أخذت أدفع الجدران بقدميّ ويديّ علها تتسع لحركتي التي أصبحت لا تتوقف. كنت أسمع آهاتها تخرج متألمة وملتاعة، لكني لم أبال. ربما كنت أستعذب همهمات آلامها العذبة!! شعرت بسعادتها تمتزج مع تلك الآهات. ومع تواصل صرخاتها كانت تندفع أنفاسها خارجة من أنفها، يتحول جزء منها إلى داخلها فيقتحم قلعتي. تلفحني حرارتها: أنكمش. أصمت. يتلبسني البيات الشتوي. لحظات وأعود إلى دفع الجدران في محاولة ثانية لتوسيعها. أفشل فتتسارع حركتي في محاولات فاشلة. تزايدت صرخاتها مع تزايد اندفاعاتي الهوجاء.‏

-يوسف..‏

انطلق الاسم من فيها مع صرخات مكتومة تعبر عن الألم الذي سببته لها. سمعت الاسم فاستعذبت حروفه. دفعتها بشدة أكثر آملاً أن أسمع الحروف تنساب من بين شفتيها مرة أخرى.‏

-ي.. و..س..ف.‏

كم هو خفيف على الأذن هذا الاسم.. تذوق نغمة صوت السين فيه.. نغمة تائهة في فضاء بعيد.. تصل إلي وكأنها آتية من عمق الأعماق. دفعتها بقسوة أكثر. وبدلاً من أن تنطق بالاسم انطلقت صرخاتها بتلاحق يفتت الأكباد.‏

رأيته يندفع نحوها. ضخم الجثة طويل القامة ذو شنب ضخم، لكنه وسيم. تسمرت نظراته على بطنها المتكور. أخذ يتابع حركتي. ارتعبت. تعمدت أن أتوه به في مواقع متعددة من حصني المنيع. تقدم باتجاهها، باتجاهي.. ارتجفت من الخوف. تشرنقت في ركن من الحصن فبرز للعيان مكاني.. امتدت يده نحوي.. أمسكني من أنفي.. هربت إلى الزاوية الأخرى.. لاحقتني أصابعه. أمسكني. تزايدت مخاوفي. تزايد ارتجاف أطرافي، وأنا الذي كنت أظن أنني في موقع حصين لا تطولني يد!‏

-يكاد ينفلت منك.. قال بصوت متهدج.‏

أجابته بصرخة طويلة متقطعة. لم يحتمل دموعها الساقطة بإصرار عجيب. تحركت أصابعه من على أنفي وامتدت إلى وجنتيها تمسح دموع عنها.‏

-لا تخافي.. اصبري، كل شيء سيكون على ما يرام.‏

أخذت أقهقه بصوت عال، ثم كتمت قهقهاتي خوفاً من أن يسمعني. هالني ما أرى! الرجل القوي الذي تحدى جمعاً من أهله يقف مرتجفاً أمامها.. احترمت ألمه ولهفته عليها. أوقفت حركتي.. تمددت بقدر ما سمحت لي المياه المتسربة. هناك متسع لأن أبسط ذراعي وساقيّ.. استكانت.. تحسستني بيديها.. أمسكتني من مكان ما بين فخذيّ.. استرخت أساريرها.. ابتسمت عيناها.‏

-إنه ولد يا يوسف.‏

قالت وقد تدفقت سعادة لا حدود لها من عينيها. صعدت آهة مرتاحة من القلب.. قلبها لتعانق أفكاره وتلتف حوله. تلقفها منشرح القلب. أطلق إشارات الامتنان لها من عينيه، لا بل من قلبه.. رأيته ينبض فيتدفق مزيجاً من والسعادة والأمل إلى رأسه فتندفع كل تلك المشاعر الراقية منه إليها. كنت أرقبهم باستمتاع.ضغطت على خاصرتها، فاختفت الابتسامة من وجهها وانطلقت منها آهة دعتني أن انتظر بعضاً من الوقت...‏

-سأخرج.‏

-يا قطعة من قلبي الذي تطوقه بيديك! انتظر.‏

ابتسمت.. وما كان مني إلا أن أمتثل لرغبتها.. انتظرت!‏

-وهل تنتظرينني؟! سألتها بلهفة.‏

-إن كان هذا يسرك فسأفعل.‏

-وإن لم تمهلك يد القدر؟!‏

-لا تكن سوداوياً!‏

قالت وقد تكدرت ملامحها وتسللت دمعة من عينيها. أبكتني. حاولت أن أمسح دموعها الغالية، لم أستطع دفعت بنفسي إلى أعلى. صرخت من الألم. توقفت. هدأت هي. بقيت وحيداً. أمامك طريق واحدة. لا خيار لديك..‏

ها أنت ذا وحيد كما تركتك. تحمل على جسدك قميصاً قد تهرّأ وسروالا هو الوحيد الذي اشتراه لك. جسد لم يعرف معنى الاسترخاء قط. كما كنت تحلم.. أن تتخلص منها جميعاً وها أنت ذا تفعل. واقع الحال أنك لم تفعل.. الأيام هي التي قررت لست نادماً.‏

-لا تلتفت للخلف، ولا تنحرف عن الطريق.‏

هكذا صاح الجندي الذي كان ضمن مجموعة رافقتنا إلى حيث الحدود. يوم قائظ شمسه حارقة تلهب الأرض ومن عليها بسياط طويلة من حرارتها. بدأت قطرات العرق تتجمع في أنحاء عدة من هذا الجسد المهدود. نظرت إلى الآخرين، لم يكن في استطاعتي أن أقرأ ما بداخلهم. ألقيت نظرة متفحصة على هذا الفضاء الواسع. اصطدمت نظراتي بجبال شاهقة. لأول مرة أراها.. أو أرى مثلها. "لا تلتفت للخلف!!" يا لها من نصيحة!! أردت أن أتخلص من الماضي. وها أنا ذا أخطو الخطوة الأولى. وذاك الجندي يأمرني ألا ألتفت للخلف. هل باستطاعتي أن أفعل؟ سأترك للأيام الرد!! الأيام!! الزمن؟؟ ماذا فعل بي؟! وماذا فعلت أنا؟! تتدحرج من هضبة إلى سفح. ثم تنهض من جديد.. كم تحمّل هذا الجسد؟! ألهذا خلق؟!‏

تقاطرنا واحداً خلف الآخر، كما أمرنا الجندي، لم يلتفت أحدنا للخلف. للحظة راودتني نفسي أن أفعل.. أن ألقي نظرة على ما سيكون ماضياً.. التف..‏

حولي، فرغبت عن تلك الفكرة المجنونة، أتذكر تلك الأيام عندما شعرت برجولتك لأول مرة؟ تحسست شعيرات متناثرة نبتت في أجزاء من ذقنك. وهذه الشعيرات كذلك. انتثرت في مساحات واسعة. ونحن في طريق لا نحيد عنها.‏

-بعد عدة أمتار سيلقاكم إخوانكم. قال ذلك الجندي.‏

-ها هم. صاح أحدنا.‏

نظرت إليهم "لماذا فعلتم بنا كل ما فعلتم؟ "كدت أصرخ، لكن الخوف ألصق لساني بين شفتي، فانحبست الكلمات.‏

-لا تنحرفوا عن الطريق. صاح أحدهم.‏

سمعنا ذلك من قبل.‏

-ماذا فعلت؟ سألني الضابط.‏

لم تتردد الكلمات بين شفتي. انطلقت بسرعة.‏

-كنت في فناء الكلية عندما اندلعت المظاهرة فألقوا القبض علي.‏

-أي كلية؟‏

-كلية بير زيت.‏

-وهذا كل ما فعلته؟ سألني.‏

-هذا كل شيء. أجبت.‏

وهكذا تتابع الاستجواب، واندلقت الإجابات الكاذبة بلا خجل. من قال إن الكذب كله حرام؟ سألت نفسي.. هل نجحت؟ ما أتفه السؤال!! فالأيام ما زالت تتراقص أمامي تخفي كثيراً من الأسرار. "لا تكن سوداوياً." قال فاروق لي ذات مرة. "إنها ترافقني كظلي" قلت له.‏

عندما أدخلني رجل الاستخبارات حجرة نظيفة، ادخل علي فاروق. كان وجهه متورماً. نظرت إليه كان شاحباً. غمزني أن لا أنطق. لم أفعل. دامت لحظات اللقاء قليلاً. لم أره بعد ذلك. خرج هو من السجن وبقيت أنا أعاني. مكثت طويلاً بين الجدران وكان هو خارجها. و ها أنا ذا أنطلق حراً لألحق به!! أين هو؟!‏

"الأيام تنسج الأحداث بدهاء "قلت لنفسي. أين هو الآن؟ حشرت جسدي مع الآخرين في سيارة عسكرية لا أدري أين تتجه. كانت الشمس قد غادرتنا غير آسفة، وعباءة من الظلام الكثيف تلف المكان بإحكام. وفي منتصف الطريق اخترق الصمت صوت انفجار شديد. توقفت السيارة على أثره. اندلع الخوف في أجزائي. ورغم شدة الظلام رأيته مجسداً أمامي يعانق خوف الآخرين. ما الذي حدث؟! كما هي العادة، لا بد أن يقضي أحدنا على الآخر. ولا أحد يريد أن يكون هذا الآخر. تباً لهذا العقل الذي يرفض التجانس مع المعقول.‏

-لا تتحركوا. صاح جندي يجلس في المقدمة.‏

وهل بإمكاننا أن نفعل؟ تجمدت أطرافنا. التصق بعضنا ببعض. لحظة الرعب تلك لم تدم طويلاً. هل شعرت يوماً بتوقف الدماء في عروقك؟ من تصلبها أمسكت بها.‏

وصلنا إلى سجن الكرك. انزلقنا من السيارة. بقايا خوف تشبثت بثنايا عقولنا. بقايا من عزم دفعتنا لأن نتحامل على أقدامنا ونصل إلى حجرات واسعة. تفحصتنا بنظرات ذابلة. ارتدت نفسي إلى الداخل، وكذلك فعلت عيناي. تملك التعب كل أنحاء جسدي، ألقيت به على الأرض وتمددت أملاً في أن أغلق صمام الوهم وأغمض عيني، وأنام. لم يكن في متناول يدي. استجمعت ما تبقى عندي من قوة لأغلق عينيّ، تحقق لي ذلك للحظات.. ثم داخل الجفون المغلقة بقيت عيناي يقظتين. وما هي إلا هنيهات حتى استيقظت حواسي كلها.‏

كيف أتيت إلى هذه الدنيا؟! ولماذا بقيت أنا ومات عدد منهم؟! تحسست الوهم بيدي. فشلت في أن أصورها في ذاكرتي، فأنا لم أشاهدها. ما أسرع ما تركتني.. أين هي الآن؟! حاولت أن أوقف دوران الذاكرة في زوايا حياتي .. لم أستطع!! وماذا استطعت أنت أصلاً من قبل؟! تهوي من علياء أوهامك إلى قاع سحيق هو واقعك الذي لا تعترف أنت به.‏

أتذكر؟!‏

الأيام الرائعة في رام الله.. عندما شعرت أن الأيام قد ابتسمت لك، وتخلصت من قضبان وهمية فرضها عليك أخوك وزوجته. ذاك المساء العابق برائحة الزهور البرية في يوم تموزي.. نسمات الهواء الخفيفة تتدفق عبر حواسك كلها. أنت سارح في ملكوت الله، وفاروق وعبد الكريم يدخنان اللفائف..‏

-ألا تدخن يا يوسف؟! سأل فاروق.‏

-لا.. لا أعتقد أنني بحاجة إلى ذلك..‏

-وما هي متعتك في الدنيا إن لم تدخن؟ قال عبد الكريم.‏

في تلك الجلسة بدأت البدايات. كنا خارج معهد المعلمين في رام الله. تحدثنا طويلاً. في ذلك اليوم دخنت لفافتين -ولقد كانت بدايتي في التدخين أيضاً- واتفقنا على أن نبدأ العمل.‏

-أتعرفه جيداً؟ سألني فاروق.‏

-أعتقد ذلك. أجبت.‏

-إذن سنقابله.‏

-لا أعد بذلك سأحاول أولاً.‏

البداية وبعض بعدها. ثم انكشف كل شيء. قل لي بربك.. كثيراً ما تتهرَّأ الأيام بين يديك دون أن تسحقك، وأكثر من ذلك تتهرّأ أنت بين يدي الأيام قبل أن تشعر بذاتك. قل لي بربك. ما تفسير ذلك؟ كيف حدث ما حدث؟! لم نفعل الكثير الذي نستحق عليه ما عانيناه لاحقاً.‏

كانت الرحلة من رام الله إلى غزة تستغرق نحو الساعتين والنصف قضيناها نغرس نظراتنا في أرض كانت ذات يوم ملكنا. مدينة القدس العتيقة بحواريها ومنازلها شاهدة على التاريخ وربما التاريخ شاهد عليها. ثم مزارع خضر على طول طريق لا أعرف اسمه، فنحن في أرض هي لنا ولم نرها من قبل. ذابت نفسي مع خضرة الطريق.. تسللت أحاسيسي عبر النافذة فعانقت الفضاء المحيط بالأشجار الخضر. دفقات من المطر اقتحمت وجهي المسحوق والجمال المبعثر على جانبي الطريق، فازداد الجمال جمالاً.‏

-يوسف.‏

كأن الصوت آتياً من أعماق الأرض. انتفضت ملتفتاً إلى مصدره.‏

-هذه هي دير سنيد.. قال المدرس الذي يرافقنا في الرحلة.‏

آه.. يا وخزة الألم الذي لا يحتمل. سكين ينغرس في لحمك. تتأوه ببطء.. يتسلل الألم عبر أجزائك كلها. "دير سنيد"، يا للاسم الرائع!! تحركت أصابع يدي عابثة بالهواء.. "دير سنيد".. تمنيت أن يبطئ السائق اندفاع السيارة، لكنه لم يفعل. لتكن غصة في القلب، وأملاً سابحاً في فضاء بلا قرار.. أحلق لاهثاً خلف سراب علني ألمس ذاك الأمل.‏

العيد..‏

-فقط تلك القروش الخمسة ولا شيء غيرها.‏

قال ابن أخي عندما أرسلته ليطلب لي المزيد من أخي الذي هو ولي أمري.‏

-قل له يا رجل أنها لا تكفي.. العيد الفائت أعطاني خمسين قرشاً.‏

قلت له. وبعد فترة عاد..‏

-لا نقود لديه.‏

ألقيت القروش الخمسة في جيب سروالي وحركت قدميّ في طريقي لأخرج من محيط المخييم -نسيت أن أقول لكم إنني أقيم في مخيم جباليا، وأصلاً من سكان قرية دير سنيد، تلك القرية التي توقف قلبي بجوارها -بيارة الترك.. طريق مرصوفة على جانبيها أشجار البرتقال محاطة بسياج قوي، لكن يسهل اختراقه. وكثيراً ما سطونا عليه لنغتصب بعضاً من الجوافة والبرتقال. بدأت أتنفس هواءً نقياً. أمسكت لحظة الذوبان هذه بيدي.. زادها روعة ذاك المطر الخفيف الذي بدأ يتساقط.. عن بعد لمحتهم.. سرت باتجاههم.. مجموعة من شبان المخيم.. الحق أقول إنهم بلا طموح. هكذا عرفتهم.. أحببتهم لصفات جيدة يتحلى بها كل منهم. عندما وصلت، وجدتهم يلعبون القمار. يمسك أحدهم بقرش "يفنه" في الفضاء ويلقي به وبيده فوقه على الأرض. عليك أن تعرف هل الوجه الملاصق لراحة اليد الرقم "10" من القرش، أم الوجه الآخر "الملك". فإذا عرفت، كسبت قرشاً أو أكثر أعجبتني اللعبة، فاستسلمت للأحلام الشيطانية.‏

تحسست القروش الخمسة المختبئة في جيب سروالي، عصرتها في راحة يدي.. هيا حاول.. قال الشيطان.. عشرة قروش أفضل من خمسة.. لا تكن متردداً.. تابع.. ولكن؟! لا لكن ولا شيء.. كلها مغامرة.. بعدها سيكون في جيبك أضعاف هذا المبلغ.. غامرت كثيراً، ونادراً ما ربحت.. ألا ترى؟! لقد قلت نادراً.. اليوم ربما تربح! هيا. تحسستها مرة ثانية.. ترقد بسلام في الجيب العميقة.. أخرجها.. أحتاجها في مكان آخر.. وماذا تعمل خمسة القروش هذه؟! تيبست أفكاري. انعدم المنطق. بلا تردد أخرجتها. انتظرت لحظات ثم جلست على ركبتي كما يفعلون ومددت يدي بقرش قائلاً "ملك" ربحت. وأخذت "افن" القرش والتقط قروش الآخرين. وفي الجولة الثانية كنت قد خسرت كل ما ربحته وخمسة القروش العريقة التي التصقت بجيب سروالي فترة إلى أن أجبرتها على الخروج.‏

-أتقرضني؟ قلت لجهاد.‏

-سأشاركك.‏

-ولكني لا أملك نقوداً.‏

-سأعطيك خمسة قروش. يكون ديني عليك قرشين ونصفاً، والباقي حصتي من رأس المال.‏

وحاولت مرة أخرى. في لحظات كانت كل القروش في أيدي الآخرين تبعثرت أحلامي على قارعة الطريق. نظرت إلى جهاد وقلت له يائساً سأؤدي لك المبلغ في أقرب فرصة -الآن أعترف أمامكم بأنني لم أدفع تلك القروش له، وهي في ذمتي- حبست دمعة كادت تقفز من عينيّ وغالبت صرخة ألم ولوعة فخرجت حشرجة هي للموت أقرب. تركت ذاك الفضاء والرذاذ الذي يستلقي على التراب الأصفر فتنتشر تلك الرائحة العجيبة الساحرة. عدت أدراجي إلى حيث أزقة المخيم وحجرات المنزل الضيقة ونظرات أخي النارية وتهكمات زوجته اللاذعة.‏

كما الآن.. حاولت أن أغمض عينيّ فلم أستطع.. وكما الآن أيضاً طافت بي الذكرى أيام الصبا فتساءلت عنها ولماذا تركتني. بقيت أسئلتي بلا إجابة إلى أن هزمني النوم، أو ربما هزمته فنمت.‏

-لا تتحرك.‏

مع آخر صدى لصوته هذا أرخيت جفوني، فاستطعت أن ألقي نظرة على ذاك الذي ألقى بالأمر. لم أتبين ملامحه. زدت من اتساع جفوني. تكونت لدي فكرة تحسست البنادق المصوبة نحوي بعينيّ. عرفت.. بل أيقنت.‏

-لا تتحرك.. هل لديك سلاح؟‏

أيضاً لم أتكلم. لقد غاص لساني في إناء من الخوف السافر، واستأثر الخوف بحواسي كلها. وأظن أن من كان يسألني قد قدّر حالتي. توقف عن توجيه الأسئلة بقيت لحظات ملقى حيث أنا. ساكن كحصاة ملقاة في رصيف طريق أتقن صنعه حاولت أن أحرك عينيّ، فلم أستطع. تحجرتا. كان باستطاعتي فقط أن أرى من يتحرك أمامهما.. كانت أشباح تمر أمامي ولا قدرة لدي على تمييزها.‏

-انهض.‏

فعلت.‏

-ارتد ملابسك.‏

فعلت.‏

-اخرج..‏

خرجت.‏

شيء ما مغروس في ظهري. تحسست ذاتي، فوجدت بقايا قوة أعانتني على أن أقطع الفناء ومن ثم عتبة المنزل إلى الخارج.‏

-أجلس.‏

جلست على الأرض أرتجف. فوهتا البندقيتين المصوبتين إلى رأسي وملامح الضابط الصارمة تحكمت في دوران دمي. أظنه توقف عن الدوران. تحسسته. صلب كعجز نخلة لا فائدة لها. تحجرت عيناي وتوقفنا عن التمييز بين الأشياء. ألصقت جسدي بجدار المنزل. تصلبت حدقتا عينيّ في وجه الضابط. له لهجة مصرية واضحة. ارتعبت من الفكرة. لا أظن ذلك. فذاك عهد مضى، وهذا الذي أمامي ينتمي إلى عهد آخر رغم لهجته المصرية.‏

-لقد اعترف خليل بكل شيء، بقي أنت.‏

خرجت الكلمات من فيه واثقة وجازمة. تبلدت أفكاري. توقف عمري كله في هذه اللحظة. الرعب الهائل مائل أمامي. بنادق مصوبة نحوي ووجوه جنود الاحتلال تكومت فيها أطنان من الكراهية. نسيت حتى ذاتي.‏

-لا أعرف خليل هذا.‏

قلت صادقاً. واقع الحال أنني غبت عن ماضي وحاضري فلم أتذكره. بقيت ساكناً كأحد حجارة الجدار الذي أتكئ عليه.‏

-ستعرفه.. قال.‏

بقيت ساكناً. تلاشت قدرتي على النطق. لا زالت البنادق تحيل دمي إلى كتل يصعب دورانها في مجراها.‏

-قف.‏

تحاملت على نفسي وانتصبت. لاحظت أنني كقوس، فحاولت أن أعتدل. فشلت. لاحظ هو ذلك، فصرخ بي أن انتصب جيداً. نجحت. لقد تطاير الخوف مع صرخته فاعتدل جاذباً جسدي معه. سار باتجاه المنزل. جذبني معه. كان أخي قد صحا من نومه ووقف في فناء المنزل عاجزاً عن الحركة. نظر إليه ذو اللكنة المصرية، فعرف مقدار الرعب الذي سكن المنزل.‏

-ما اسمك؟ سأل.‏

-ذيب.‏

-اسمع يا ذيب، الحياة فيها الحلو والمر. وكلما تذوقت حلو الحياة، لا بد لك أن تتذوق مرها. يقولون أن أخاك منظم. سنأخذه ونعرف لماذا. وإذا لم يكن كذلك فسنرجعه لك.‏

من أين أتته الحكمة؟! نظرت إليه مشدوهاً. ظننت أن الأرض تتأوه من وقع أقدامهم فإذا لديهم من الكلمات ما يمتص دفقات الخوف والألم.‏

-لنا الله. قال أخي.‏

-الله لنا جميعاً. قال الضابط. ادخل وبدل ملابسك. أمرني.‏

بدأت استرد ذاتي. حلو الحياة ومرها. كم من الزمن تلون لسانك وحلو الحياة؟ أما مرارتها فلا تسل!! تطفح من عينيّ، بل إنها تعانق كلماتي. وهل يعرف ذو اللهجة المصرية مرّ الحياة وحلوها؟! لو عرف مرّها لتبدلت الأيام وكذا المواقف.‏

نقلت قدميّ حتى أصبحت وسط الحجرة التي كان يقاسمني إياها ابن أخي. جنود ثلاثة كانوا داخلها. وجد أحدهم بعضاً من مذكراتي بالإنجليزية، عرضوها عليه، قرأ المقدمة، "ألقوها مكانها لا أهمية لها" قال:‏

ارتديت ملابسي أمام الجميع. ازداد تماسك أجزائي. استدرت خلفه واستدارت البنادق خلفنا جميعاً. خرجت من المنزل. شعرت أنني لن أعود إليه مرة أخرى -لا تسألني لم هذا الشعور.. ألم تسمع فاروق عندما قال لي "لا تكن سوداوياً" أنا بطبعي كذلك -لم ألق نظرة أخيرة على الباب، رغم أن نفسي راودتني أن أفعل حاولت أن ألقي بالماضي خلفي، كما حاولت عندما أمرنا الجندي أن نسير في طريق مستقيم إلى أن نلتقي بإخواننا. الفرق هذه المرة أنني لن ألتقي بأخوتي بل بأبناء عمومتي.. ويا لهم من أبناء عم!!!‏

هي اللحظة التي حدثك عنها الأستاذ خاطر، مدرس الجغرافيا الذي حاول لملمة أشلاء تنظيم كان قد اهترئ على أيدي مثقوبين. قال:‏

-عندما تواجههم، حاول أن تتماسك. سيسألونك عن تاريخ حياتك. كن دقيقاً واخف ما استطعت من الحقائق حتى تضللهم. هي إذن تلك اللحظة وأنت مستعد لها. من قال ذلك؟! لا زال الخوف يحتل مساحات شاسعة مني، لكني بدأت أحس بما يدور حولي. هذا منزل خالي صالح. كلهم نيام. وجهاد أيضاً نائم. لا يعرف المسكين أنه فقد نقوده إلى الأبد.‏

إلى الأبد؟! أنت حقاً سوداوي.. غداً ستعود وترد إليه نقوده.. لا أظن ذلك.. ومتى كان الأمل الذي كثيراً ما تراقص أمام عينيّ يتحقق؟! متى؟! سحقتني الأيام بكثرة الإخفاقات المتتالية، وهذه إحداها. أو تسامحني يا جهاد بالنقود؟! أعرف أنك ستفعل.‏

استرقت نظرات دائرية لأتعرّف الأشياء، لكنه لم يمهلني.. تقدم جندي بجانبه وآخران على كل من جانبي، فانعدمت الرؤية. وعندما وصلت نقطة ما، التقطني جندي من أعلى قميصي خلف عنقي وجرني كخروف حان وقت ذبحه إلى السيارة العسكرية. أظنها نصف مجنزرة كتلك التي رأيتها كثيراً عندما كنت طليقاً. كيف أصبحت في تلك المجنزرة؟! لا أدري. جلست على ركبتي كما فعلت لحظة أن لعبت القمار مع أولئك الذين لا يشعرون بما يدور حولهم.‏

-انبطح!!‏

صاح بي أحد الذين أحاطوني في المجنزرة. نظرت إليه ببلاهة فلم أفهم ما قاله. نظروا إلي، فاخترقت نظراتهم أنحاء كثيرة من جسدي.‏

-ألا تفهم؟! تضاعفت بلاهتي.‏

جرني من عنقي كما فعل ذاك الذي صعد بي إلى المجنزرة وألقاني على بطني، فاستلقيت مستكيناً ومستسلماً للقدر كما هي عادتي. لحظات وألقى كل منهم بقدميه على جسدي. أحدهم وضع قدميه المدسوستين في حذاء عسكري ثقيل فوق رأسي.‏

هكذا..‏

هكذا..‏

انهزمت وأفكاري في داخلي.‏


Sleep
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://videogames.hooxs.com
فــــ الشلة ـــارس
THE CHIEF
THE CHIEF
فــــ الشلة ـــارس


ذكر عدد الرسائل : 440
العمر : 29
العمل/الترفيه : لعب بps3 و wii
المزاج : سعيد اذا شفت اعضاء
تاريخ التسجيل : 06/12/2007

التائه Empty
مُساهمةموضوع: رد: التائه   التائه Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 12, 2007 8:41 am

مشكوووور اخوي على الموضوع الرائع lol!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الامبراطور
مدير المنتدى (امير المنتدى)
مدير المنتدى (امير المنتدى)
الامبراطور


ذكر عدد الرسائل : 469
العمر : 32
العمل/الترفيه : البلاي ستييشن بس
المزاج : غزل
تاريخ التسجيل : 06/12/2007

التائه Empty
مُساهمةموضوع: رد: التائه   التائه Icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 12, 2007 9:31 am

مشكووور الله يعطيك العافيه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ارسنالي
عضو نشيط
عضو نشيط



ذكر عدد الرسائل : 58
تاريخ التسجيل : 28/04/2008

التائه Empty
مُساهمةموضوع: رد: التائه   التائه Icon_minitimeالإثنين أبريل 28, 2008 3:04 pm

مشكوووووور يا فارس الشله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ارسنالي
عضو نشيط
عضو نشيط



ذكر عدد الرسائل : 58
تاريخ التسجيل : 28/04/2008

التائه Empty
مُساهمةموضوع: رد: التائه   التائه Icon_minitimeالإثنين أبريل 28, 2008 3:04 pm

على جهدك قصدي فارس الشله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
فــــ الشلة ـــارس
THE CHIEF
THE CHIEF
فــــ الشلة ـــارس


ذكر عدد الرسائل : 440
العمر : 29
العمل/الترفيه : لعب بps3 و wii
المزاج : سعيد اذا شفت اعضاء
تاريخ التسجيل : 06/12/2007

التائه Empty
مُساهمةموضوع: رد: التائه   التائه Icon_minitimeالإثنين أبريل 28, 2008 3:15 pm

شكرا على المرووووووووور
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ملك الرومانسيه




ذكر عدد الرسائل : 22
تاريخ التسجيل : 28/04/2008

التائه Empty
مُساهمةموضوع: رد: التائه   التائه Icon_minitimeالإثنين أبريل 28, 2008 3:39 pm

مشكووووور
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ســــرٍرٍرٍيٍ لــلـغـايـه
نائب مدير
نائب مدير
ســــرٍرٍرٍيٍ لــلـغـايـه


ذكر عدد الرسائل : 93
العمل/الترفيه : نــــآئــــب الــمــديـــر
المزاج : رآيــق لــمــه اشــوفـ اعــضــاء
تاريخ التسجيل : 05/05/2008

التائه Empty
مُساهمةموضوع: رد: التائه   التائه Icon_minitimeالثلاثاء مايو 06, 2008 12:40 pm

مشكورر اخوي يعطيك العافيه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
التائه
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
العاب الشلة :: قسم المنوع :: شلة القصص-
انتقل الى: